نموذج للطبيب الناجح [ 12] د/ياسر الجندي (2) // د . علوي القاضي

 «®» خواطر طبية «®»

( نموذج للطبيب الناجح ) [12]

 د/ياسر الجندي (2)

من مذكراتي : د / علوي القاضي.

... في المقال السابق عرضنا كل ملامح الملائكية والإنسانية والإيجابية في شخصيته ، ولكن لأن من سنة الحياة الفناء وعدم الدوام ، فقد جاء ذلك الصباح الحزين ، تأخر إستيقاظه ، ولما دخلوا عليه ، وجدوه منكفئا على وجهه وفي غيبوبة ، نزيف في المخ ، وظل في غيبوبته أسبوعا ، حتى فاضت روحه الكريمة ، في أفضل الأوقات (صلاة الجمعة) ، وفي أفضل الشهور (شهر رمضان المبارك)

... ولأن سيرته العطرة عمت المستشفى ، لا أنسى حالة الفتاة التي تعاني من ٱلام في الحوض ، وصعب علينا تشخيصها ، ولكن خطر لنا أن السبب قد يكون في  المبيض ، أو سبب من أمراض (النساء) ، هنا قال أحدنا (كما تعودنا) ، نسأل (ياسر الجندي !) ، وياحسرتنا حينما تذكرنا أنه فارقنا ، فنظرنا للأرض ، وكلنا خجل وحرج ومرارة ولوعة الفراق ، فقد نسينا أن (د/ ياسر الجندي) قد توفي  

... عندما أتذكره ، أتذكر ذلك الوجه الشاحب المرهق ، والتدخين الذي لا يتوقف ، والسهر في عنبر النساء البارد شتاءا ، وأكواب القهوة ، والممرضات الساهرات  بانتظار الولادة التالية ، أتذكر قفازاته الملوثة بالدم والقساطر البولية ، و هو يركض في المستشفى في الظلام بحثًا عن فصيلة دم (O سالب) من أجل مريضة تنزف  

... مازلت أتذكره كلما تحدثنا عن إهمال الأطباء وجهلهم ،  وعدم تواجدهم في المستشفي ، وإذا تواجدوا يهملون أو يرتكبون أخطاء مهنية ا

... كان نموذجا للإيجابية ، التي لا تروق للصحافة ، ولا زملاءه ، ولا المرضى ، لم نجد أحدا كتب مقالاً عن طبيب مثله تبرع بدمه من أجل مريضة ، لكن الجميع يتلذذ بالكتابة عن طبيب نسي فوطة في بطن مريض ، فهذه طبائع البشر

... أتذكر مريضة ، إنحشرت رأس جنينها أثناء الولاده ، تسبب في (ناصور) ، فأصبحت لاتتحكم في التبول ، ثم فوجئنا أنها مصابة بـ (الإستسقاء) ولذلك تم تأجيل إصلاح هذا الناصور حتى علاج الإستسقاء ، ونقلت المريضة لقسم الكبد للعلاج ، وإعتاد ياسر الجندي أن يزورها في القسم يوميًا ، وأتذكر مداعباته ليسليها ويضحكها ، فكان يقلد صوت (أمها العجوز بلهجتها الريفية) ،ثم يداعب أنفها بسلسلة المفاتيح !) ليطمئنها ، ويغير ملامحه فتنفجر المريضة بالضحك   

... أحيانا كنا نتهمه بالمبالغة ، وأحيانا أنه يعاني خليطًا من (لذة الإستشهاد والوسواس القهري) ، والعجيب ، رغم أنه من حقه بعد إنتهاء فترته كـ (طبيب مقيم) أن يستريح ويأخذ نوبتجيات أقل ، لكنه إستمر بنفس التوتر والوتيرة والإرهاق كما كان ، نوبتجيته قد تمتد لثلاثة أيام ولايغمض له جفن ، وكان من تواضعه أن يضع بيده الشبشب في قدمي المريضة ، أو نراه هو والعامل يحملان إسطوانة أكسجين 

... التبرع بالدم كان هوايته ، حتى صار ضيفًا مستمرا في بنك الدم ، حتى تلقى الفنيون هناك أمرًا من الإدارة بمنعه من التبرع ، لأن هذا يهدد حياته ، ولذلك إحتفظ ببعض أكياس التبرع الفارغة لتكون متاحة  

... قدرا يعبر الطريق فتسقط منه آشعات مريضة كان يحملها ، وبلا حذر يعود ليلتقط الآشعات قبل أن تدهمها السيارات ، فتدهمه هو ، وحملوه غارقًا في دمه إلى المستشفى ، وكان همه تبرئة السائق (لا ذنب له) ، وظل يبكي لأن غيابه عن مريضاته ، يعني توقف خدماته لهن ، فلن يؤدها غيره ، ويفعل ما يريده كما يريده

... كلامي عنه كأنه كرامات أحد الأولياء ، وحينما تسأل عنه في المستشفى يخبروك بأن ما أقوله أقل من حقه

... كان يؤمن أنه لايستحق راتبه ، وهكذا أنفقه كله على المريضات الفقيرات ، وجعل عنبره أقرب إلى عنابر المستشفيات الخاصة (تيلفاز ، ستائر ، ثلاجة ، أزهار) ، لم يتزوج وليس عنده أبناء  

... كان يرفض أن يجتاز الدكتوراة ، لأنه يشعر أنه لم يحقق المستوى العلمي المطلوب ، وقام بتسجيل كل ما يقابله في علم أمراض النساء على شرائط كاسيت يسمعها في ليلا وفي وحدته وفي أي مكان ، وفي النهاية إجتاز الإمتحان ، لكنه لم يفتتح عيادة خاصة

... تحياتي ...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نجواى أنت // بقلم الشاعر رحب كومى

رثاء شاعر الوطن // بقلم أ. سامية البابا

بعض أسماء وصفات النساء عند العرب // بقلم محمد جعيجع