نموذج للطبيب الناجح ) [12] د/ياسر الجندي (3) (الوداع الأخير) // د . علوي القاضي
«®» خواطر طبية «®»
( نموذج للطبيب الناجح ) [12]
د/ياسر الجندي (3) (الوداع الأخير)
من مذكراتي : د / علوي القاضي.
... كانت نهايته سريعًة في نهار رمضان ، عندما تأخر في الإستيقاظ من النوم ، وقد اعتبرنا هذا تصرفًا معتادًا في شهر الصيام ، فتحوا غرفته أخيرًا ليجدوه ملقا على وجهه على الأرض ، وفي غيبوبة عميقة ، لقد قتله الإنهاك والجهد والسهر وإرتفاع ضغط الدم ، فأصيب بنزيف بالمخ
... أسبوع كامل مر علينا وهو في غيبوبته ، والجميع يصلي من أجله ، لكن الموت يجيد الإنتقاء ، وبعد وفاته ، جمعت مريضاته الفقيرات المال من بعضهن ، وصنعن له صورة عملاقة ، علقنها في عنبره
... ياسر الجندي كان بيننا ، أوافق على أنه مثال نادر لايُقاس عليه أحد ، لكني أدعو أي مريضة إلى أن تتذكره ، وهي تزور عيادة هذا الطبيب أو ذاك من أباطرة الطب الذين لا تختفي صورهم من الفضائيات وبرامج التلفزيون والصحف والمجلات
... تذكره وهي تكتشف أن موعد الكشف في الثالثة صباحًا ، وقيمته تجاوز الألف جنيه
... تذكره عندما يطالبها الطبيب العظيم بأن تعيد الأبحاث كلها في مختبر (المدام) ، وتذكره عندما يكتب لها في النهاية علاجًا لاجدوى منه جربته ألف مرة من قبل ، وتذكره عندما تكتشف أن التحليل باهظ الثمن الذي طلبه منها لا قيمة له إلا استكمال ورقة علمية يريد أن يقدمها للترقية (على حسابها)
... عندما نتعامل مع هذا الطبيب أو ذاك ، نتذكر أن كان هناك من يدعى (ياسر الجندي) ، ومثله مئات من الأطباء ، الذين يختلفون بالتأكيد عن تلك الصورة التي تهوى وسائل الإعلام رسمها
... ومن الحرام أن نخلط بين هذا وذاك ، ومن القسوة أن نعامل هذا بميزان ذاك ، نذكره عندما ترى شرطي المرور الفقير الذي يساعد الأطفال على عبور الطريق ، ومدرس الإبتدائي الذي مازال يصر على أن يبح صوته في الشرح مقابل مرتب جنيهات ، وموظف السجل المدني الذي يرفض الرشوة ، وهو أحوج ما يكون لها
... يوم الوداع الأخير ، تذكر الكثيرون أنهم ظلموه ، ولم ينصفوه وهو حي ولكن (بعد فوات الأوان) ، تذكروا وقتها فقط ، أنه كان يحيا بينهم رجل لم يطمع في دنياهم ، وبرغم ذلك شاركوا في قذفه بالحجارة أو صمتوا على إيذائه
... في أيام غيبوبته السبعة حل سلام روحي عجيب على ملامحه المتعبة ، وكأن كل أيام عذابه الماضية لم تحدث أبدا ، إن الألم مهما كان عظيما فانه ينتهي ، ويبقى الأجر إن شاء الله
... كان جميلا وقد نفض الغبار عن ملامحه المتعبة وعاد إلى رونقه وكأن معركة الحياة لم تحدث أصلا ، أحسست بشكل ما ، وكأن كل ألام حياته لم تحدث على الإطلاق ، وأنا أراه في إكتمال رجولته يشع نورا وبهاء في سلامه المنعزل العميق بعيدا عن هذا العالم الذي آذاه ، ولم يكن يريد منه شيئا
... ورحت أفكر ، كم من رجل من هذا الطراز يحيا بيننا دون أن نشعر به ؟! ، رجل يؤدي واجبه في الحياة على قدر الإستطاعة ، يؤديه في أسرته وفي عمله وبين أقاربه ، ذلك المعدن الأصيل ، رغم هجمة الفساد المنظمة ! ، كم يوجد بيننا في تلك اللحظة رجل شريف ، يعاني من تحدي الفاسدين ، دون أن يفكر أحدنا في إنصافه حتى إذا مات ، قلنا خسارة ، رجل لن يعوض ، ورحنا نلوم أنفسنا وننصره في خيالنا ، بعد أن لم يعد لنصرتنا أي قيمة ، لأنه ببساطة ذهب إلى من لايضيع عنده الأجر ولا يخفى عليه التعب ولا ينسى مكافأة المجتهد
... في الوداع الأخير ، مات الدكتور / ياسر الجندي وبموته نقص الجمال في الأرض ، وذهب رجل فهم الدين فهما صحيحا ، وسط كل هذا الضجيج ، فهم أنه العمل بإخلاص وليس كلاما أجوف ، ولذلك فقد بذل نفسه كاملة من أجل المرضى ، رحمه الله ، رحمة واسعة و ألحقنا به فى الصالحين
... تحياتي ...
تعليقات
إرسال تعليق